فصل: بيان الإيثار وفضله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان ذم البخل

قال الله تعالى ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن لا سيئ الملكة وفي رواية ‏"‏ ولا جبار ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ ولا منان ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله يبغض ثلاثة‏:‏ الشيخ الزاني والبخيل المنان والمعيل المختال وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا قلصت ولزمت كل حلقه مكانه حتى أخذت بتراقيه فهو يوسعها ولا تتسع وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خصلتان لا تجتمعان في مؤمن‏:‏ البخل وسوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى ارذل العمر وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة وإياكم والفحش إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحشين وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وقتل شهيد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكته باكية فقالت‏:‏ واشهيداه‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وما يدريك أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه وقال جبير بن مطعم‏:‏ بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلة من خيبر إذا علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ أعطوني ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد هذه العصاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقلت غير هؤلاء كان أحق به منهم فقال ‏"‏ إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه ثمن بعير فأعطاهما دينارين فخرجا من عنده فلقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأثنيا وقالا معروفاً وشكراً ما صنع بهما فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالا‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لكن فلان أعطيته ما بين عشرة إلى مائة ولم يقل ذلك إن أحدكم ليسألني فينطلق في مسألته متأبطها وهي نار فقال عمر فلم تعطهم ما هو نار فقال ‏"‏ يأبون إلا أن يسألون ويأبى الله لي البخل وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله لكم ألا إن الله عز وجل خلق الجود فجعله في صورة رجل وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة طوبى وشد أغصانها بأغصان سدرة المنتهى ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغضن منه أدخله الجنة ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة‏.‏

وخلق البخل من مقته وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله النار ألا إن البخل من الكفر والكفر في النار وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي والبخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد بني لحيان ‏"‏ من سيدكم يا بني لحيان ‏"‏ قالوا‏:‏ سيدنا جد بن قيس إلا أنه رجل فيه بخل فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأي داء أدوأ من البخل ولكن سيدكم عمرو بن الجموح وفي رواية أنهم قالوا‏:‏ سيدنا جد بن قيس فقال ‏"‏ بما تسودونه ‏"‏ قالوا‏:‏ إنه أكثر مالاً وأنا على ذلك لنرى منه البخل فقال عليه السلام ‏"‏ وأي داء أدوأ من البخل ليس ذلك سيدكم ‏"‏ قالوا ‏"‏ فمن سيدنا يا رسول الله قال ‏"‏ سيدكم بشر بن البراء ‏"‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله يبغض البخيل في حياته السخي عند موته وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل وقال أيضاً‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد وقال أيضاً ‏"‏ خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول قائلكم الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح حلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل‏.‏

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول‏:‏ بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وما ذنبك صفه لي ‏"‏ فقال‏:‏ هو أعظم من أن أصفه لك‏!‏ فقال ‏"‏ ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون ‏"‏ فقال‏:‏ بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ فذنبك أعظم أم الجبال ‏"‏ قال‏:‏ بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال ‏"‏ فذنبك أعظم أم البحار ‏"‏ قال ‏"‏ بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال ‏"‏ فذنبك أعظم أم السموات ‏"‏ قال‏:‏ بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال ‏"‏ فذنبك أعظم أم العرش ‏"‏ قال‏:‏ بل ذنبي أعظم يا رسول الله قال ‏"‏ فذنبك أعظم أم الله ‏"‏ قال‏:‏ بل الله أعظم وأعلى قال ‏"‏ ويحك فصف لي ذنبك ‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله إني رجل ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من نار فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إليك عني لا تحرقني بنارك فو الذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم صلت ألفي ألف عام ثم بكيت حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقى بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار ويحك‏!‏ أما علمت أن البخل كفر وأن الكفر في النار ويحك‏!‏ أما علم أن الله تعالى يقول ‏"‏ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه‏.‏

‏.‏

‏.‏

ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏

الآثار قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها‏:‏ أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التنسيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنها العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمى فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلاً‏.‏

وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز‏:‏ أف للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته‏.‏

وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه‏:‏ إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاً لكننا نتبصر‏.‏

وقال محمد بن المنكدر‏:‏ كان يقال إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم‏.‏

وقال علي كرم الله وجهه في خطبته‏:‏ إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما فيده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى ‏"‏ ولا تنسوا الفضل بينكم ‏"‏ وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويحش بما في يده فيحبسه والبخيل هو الذي يبخل بما في يده‏.‏

وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غوراً في نار جهنم البخل أو الكذب وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي‏:‏ تكلم فقال‏:‏ خير الناس من ألفى سخياً وعند الغضب وقوراً وفي القول متأنياً وفي الرفعة متواضعاً وعلى كل ذي رحم مشفقاً‏.‏

وقام الرومي فقال‏:‏ من كان بخيلاً ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه‏.‏

وقال الضحاك في قوله تعالى ‏"‏ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ‏"‏ قال‏:‏ البخل أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى‏.‏

وقال كعب‏:‏ ما من صباح إلى وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفاً وعجل لمنفق خلفاً‏.‏

وقال الأصمعي سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه‏.‏

وقال أبو حنيفة رحمه الله

لا أرى أن أعدل بخيلاً لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة‏.‏

وقال علي كرم الله وجهه والله ما استقصى كريم قط حقه‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ عرف بعضه وأعرض عن بعض ‏"‏ وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلث ذم البخلاء وأكل القديد وحك الجرب‏.‏

وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنك إذاً لبخيل ‏"‏ ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا صوامة قوامة إلا أنها فيها بخلاً قال ‏"‏ فما خيرها إذاً وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين‏.‏

وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً وللبخلاء إلا بعض ولو كانوا أبراراً‏.‏

وقال ابن المغتر‏:‏ أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام‏.‏

إبليس في صورته فقال له‏:‏ يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال‏:‏ أحب الناس إلي المؤمن البخيل وأبغض الناس إلي الفاسق السخي قال له‏:‏ لم قال‏:‏ لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك‏.‏

حكايات البخلاء قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة بببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال‏:‏ لا بأس عليك تقيأ ما أكلت فقال‏:‏ هاه‏!‏ أتقيأ طباهجة ببيض‏!‏ الموت ولا ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ أقبل أعرابي يطلب رجلاً وبين يديه تين فغطى التين بكسائه فجلس الأعرابي فقال له الرجل‏:‏ هل تحسن من القرآن شيئاً قال‏:‏ نعم فقرأ ‏"‏‏.‏

‏.‏

‏.‏

والزيتور وطور سينين ‏"‏ فقال‏:‏ وأين التين قال‏:‏ هو تحت كسائك‏.‏

ودعا بعضهم أخاً له ولم يطعمه شيئاً فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون فأخذ صاحب البيت العود وقال له‏:‏ بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك قال‏:‏ صوت المقلى‏.‏

ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل‏:‏ صف لي مائدته فقال‏:‏ هي فتر في فتر وصحافه منقورة من حب الخشخاش قيل فمن يحضرها قال‏:‏ الكرام الكاتبون‏!‏ قال‏:‏ فما يأكل معه أحد قال‏:‏ بلى الذباب فقال‏:‏ سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخطيه بها ولو ملك محمد بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم غليه فإذا قرم غليه أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقيل له‏.‏

نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه إن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك وآكل منه ألواناً عينه لوناً وأذنه لوناً ولسانه لوناً وغلصمته لوناً ودماغه لوناً وأكفي مؤونة طبخه فقد اجتمعت لي فيه مرافق‏.‏

وخرج يوماً يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله‏:‏ ما لي عليك إن رجعت بالجائزة فقال‏:‏ إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهماً‏!‏ فأعطي ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانق‏.‏

واشترى مرة لحماً بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق‏!‏ وقال‏:‏ أكره الإسراف‏.‏

وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول‏:‏ لو دخلت فأكلت كسرة وملحاً‏!‏ فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال‏:‏ سر بنا فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحاً فجاء سائل فقال له رب المنزل‏:‏ بورك فيك فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا‏!‏ قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك‏!‏ فلا والله ما رأيت أحداً أصدق مواعيد منه‏!‏ هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما‏!‏‏.‏

بيان الإيثار وفضله

اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات‏.‏

فأرفع درجة السخاء الإيثار وهو أن يجود بالمال مع الحاجة‏.‏

وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج والبذل مع الحاجة أشد‏.‏

وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ولو وجدها مجاناً لأكلها‏.‏

فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه‏.‏

فانظر ما بين الرجلين فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء‏.‏

وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال ‏"‏ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ‏"‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا ونزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف فلما اصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقد عجب الله من صنيعكم الله إلى ضيفكم ‏"‏ ونزلت ‏"‏ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى والإيثار أعلى درجات السخاء‏.‏

وكان ذلك من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سماه الله تعالى عظيماً فقال تعالى ‏"‏ وإنك لعلى خلق عظيم ‏"‏ وقلا سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام يا رب أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وسلم وأمته‏!‏ فقال يا موسى إنك لن تطيق ذلك ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى فقال‏:‏ يا رب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة قال‏:‏ بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته وبوأته من جنتي حيث يشاء‏:‏ وقيل خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم قال ما رأيت‏!‏ قال فلم آثرت به هذا الكلب قال ما هي بأرض كلاب إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أشبع وهو جائع‏!‏ قال فما أنت صانع اليوم قال‏:‏ أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء‏!‏ إن هذا الغلام لأسخى مني فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال‏:‏ إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول‏.‏

وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام‏:‏ إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختارا كلاهما الحياة وأحباها فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهطبا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول‏:‏ بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهى بك الملائكة‏!‏ فأنزل الله تعالى ‏"‏ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ‏"‏ وعن أبي الحسن الأنطاكي‏:‏ أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً - وكانوا في قرية بقرب الري - ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم ‏"‏ فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رفع فإذا الطعام بحاله ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه‏.‏

وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء فنزع خشبة من سقف بيته فأعطاه ثم اعتذر غليه‏:‏ وقال حذيفة العدوي‏:‏ انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول‏:‏ إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه فإذا أنا به فقلت‏:‏ أسقيك فأشار إلي أن نعم فإذا رجل يقول‏:‏ آه‏.‏

‏.‏

فأشار ابن عمي إلى أن أنطلق به إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت‏:‏ أسقيك فسمع به آخر فقال‏:‏ آه‏.‏

‏.‏

‏.‏

فأشار هشام انطق به إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين‏.‏

وقال عباس بن دهقان‏:‏ ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلى بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه واستعار ثوباً فمات فيه‏.‏

وعن بعض الصوفية قال‏:‏ كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد فتبعنا كلب من البلد فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا‏.‏

فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً فجاء إلى تكل الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد فقام ذلك الكلب وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف‏.‏

وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل‏.‏

بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما

لعلك تقول‏:‏ قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات ولكن ما حد البخل وبماذا يصير الإنسان بخيلاً وما من إنسان وهو يرى نفسه سخياً وربما يراه غيره بخيلاً وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس فيقول قوم‏:‏ هذا بخل ويقول آخرون ليس هذا من البخل‏.‏

وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حباً للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه فإن كان يصير بإمساك المال بخيلاً فإذا لا ينفك أحد عن البخل‏.‏

وإذا كان الإمساك مطلقاً لا يوجب البخل ولا معنى للبخل إلا الإمساك فما البخل الذي يوجب الهلاك وما حد السخاء الذي يستحق به البعد صفة السخاوة وثوابها فنقول‏:‏ قد قال قائلون حد البخل منه الواجب فكل من أدى مايجب عليه فليس ببخيل وهذا غير كاف فإن من يرد اللحم مثلاً إلى القصاب والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلاً بالاتفاق‏.‏

وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلاً‏.‏

ومن كان بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلاً‏.‏

وقال قائلون البخيل هو الذي يستصعب العطية وهو أيضاً قاصر فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة وما يقرب منها ويستصعب ما فوق ذلك وإن أريد به أن يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا وهو ما يستغرق جميع ماله أو المال العظيم‏.‏

فهذا لا يوجب الحكم بالبخل‏.‏

وكذلك تكلموا في الجود فقيل الجور عطاء بلا منن وإسعاف من غير روية‏.‏

وقيل‏:‏ الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل‏.‏

وقيل‏:‏ الجود السرور بالسائل والفرح بالعطاء لما أمكن‏.‏

وقيل‏:‏ الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى والعبد لله عز وجل فيعطى عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر‏.‏

وقيل‏:‏ من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود ومن وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل بل نقول‏:‏ المال خلق لحكمة ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه ويمكن التصرف فيه بالعدل وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ ويبذل حيث يجب البذل‏.‏

فالإمساك حيث يجب البذل بخل والبذل حيث يجب الإمساك تبذير‏.‏

وبينهما وسط وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء وقد قيل له ‏"‏ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ‏"‏ فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين البسط والقبض وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيباً به غير منازع له فيه‏.‏

فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يصابرها فهو متسخ وليس بسخي بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله فأقول‏:‏ إن الواجب قسمان‏:‏ واجب بالشرع وواجب بالمروءة والعادة‏.‏

والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة فإن منع واحداً منهما فهو بخيل ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة أو يؤديها ولكنه يشق عليه فإنه بخيل بالطبع وإنما يتسخى بالتكلف أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله أو من وسطه فهذا كله بخل‏.‏

وأما واجب المروءة فهو ترك المضايقة والاستقصاء فإن ذلك مستقبح واستقباح ذلك يخلف بالأحوال والأشخاص‏.‏

فمن كثر ماله استقبح منه مالا يستقبح مع العبد ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة‏.‏

وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي‏.‏

وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير‏.‏

فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره‏.‏

ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال فمانع الزكاة والنفقة بخيل‏.‏

وصيانة المروءة أهم من حفظ المال والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل‏.‏

ثم تبقى درجة أخرى وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال‏:‏ قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها‏.‏

ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقداره ما له وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه‏.‏

فمن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل‏.‏

نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير‏.‏

ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد فإنه يشتري المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه والجود هو بذل الشيء من غير عوض‏.‏

هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة أو اكتساب فضيلة الجود وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جواداً فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلاً أو من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه فكل ذلك ليس من الجود لأنه مضطر إليه بهذه البواعث وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حيان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت‏:‏ هل فيكم من أسأله عن مسألة فقالوا لها‏:‏ سلي عما شئت - وأشاروا إلى حيان بن هلال - فقالت‏:‏ ما السخاء عندكم قالوا‏:‏ العطاء والبذل والإيثار قالت‏:‏ هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين قالوا‏:‏ أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة قالت‏:‏ فتريدون على ذلك أجراً قالوا‏:‏ نعم قالت ولم قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثاله قالت سبحان الله‏!‏ فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه قالوا لها فما السخاء عندك يرحمك الله قالت السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته غير كارهين ولا تريدون على ذلك أجراً حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء‏!‏ ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئاً بشيء إن هذا في الدنيا لقبيح‏!‏ وقالت بعض المتعبدات أتحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط قيل ففيم قالت السخاء عندي في المهج‏.‏

وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخو بنفسك تتلفها لله عز وجل ويسخو قلبك ببذل مهجبتك وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه ولا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً وإن كنت غير مستغن عن الثواب ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك‏.‏

بيان علاج البخل

اعلم أن البخل سبب حب المال‏.‏

ولحب المال سببان أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما أنه كان لا يبخل بما له إذ القدر الذي يحتاج إليه في يوم أو في شهر أو في سنة قريب وإن كان قصير الأمل ولكن كان له أولاد أقام الولد مقام طول الأمل فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم‏.‏

ولذلك قال عليه السلام ‏"‏ الولد مبخلة مجبنة مجهلة فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة‏.‏

السبب الثاني‏:‏ أن يحب عين المال فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته وبتفضل آلاف وهو شيخ بلا ولد ومعه أموال كثيرة ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة ولا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محباً للدنانير عاشقاً لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة وهذا مرض للقلب عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن وهو مرض مزمن لا يرجى علاجه‏.‏

ومثال صاحبه‏:‏ مثال رجل عشق شخصاً فأحب رسوله لنفسه ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله فإن الدنانير رسول يبلغ إلى الحاجات فصارت محبوبة لذلك لأن الموصل إلى اللذيذ لذيذ ثم قد تنسى الحاجات ويصير الذهب عنده كأنه محبوب في نفسه وهو غاية الضلال بل من رأى بينه وبين الحجر فرقاً فهو جاهل إلا من حيث قضاء حاجته به فالفاضل عن قدر حاجته والحجر بمثابة واحدة‏.‏

فهذه أسباب حب المال‏.‏

وإنما علاج كل علة بمضادة سببها فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر وتعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم وتعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه وكم من ولد ولم يرث من أبيه مالاً وحاله أحسن ممن ورث وبأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر وأن ولده إن كان تقياً صالحاً فالله كافيه وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته إليه‏.‏

ويعالج أيضاً قلبه بكثرة التأمل في الأخبار الواردة في ذم البخل ومدح السخاء وما توعد الله به على البخل من العقاب العظيم‏.‏

ومن الأدوية النافعة‏:‏ كثرة التأمل في أحوال البخلاء ونفرة الطبع عنهم واستقباحهم له فإنه ما من بخيل إلا ويستقبح البخل من غيره ويستثقل كل بخيل من أصحابه فيعلم أنه مستثقل ومستقذر في قلوب الناس مثل سائر البخلاء في قلبه‏.‏

ويعالج أيضاً قلبه بأن يتفكر في مقاصد المال وأنه لماذا خلق ولا يحفظ من المال إلا بقدر حاجته إليه والباقي يدخره لنفسه في الآخرة بأن يحصل له ثواب بذله‏.‏

فهذه الأدوية من جهة المعرفة والعلم فإذا عرف بنور البصيرة أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً فإن تحركت الشهوة فينبغي أن يجيب الخاطر الأول ولا يتوقف فإن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه‏.‏

حكي أن أبا الحسن البوشنجي كان ذات يوم في الخلاء فدعا تلميذاً له وقال‏:‏ انزع عني القميص وادفعه إلى فلان فقال‏:‏ هلا صبرت حتى تخرج قال‏:‏ لم آمن على نفسي أن تتغير وكان قد لي بذله‏!‏ ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفاً كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره حتى إذا سافر وفارق تكلفاً وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له‏.‏

ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب بها خبث الرياء ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال كما يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها لا ليخلى واللعب ولكن لينفك عن الثدي إليه ثم ينقل عنه إلى غيره فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب وتكسر سورته بها ويسلط الغضب على الشهوة وتكسر رعونتها به إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء فيبذل الأقوى بالأضعف فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه فإن يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء فلذلك يتبين أن الرياء أغلب عليه فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء فينبغي أن يبذل فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه‏.‏

ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جميع أجزائه دوداً ثم يأكل بعض الديدان البعض حتى يقل عددها ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها‏.‏

ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها فإنها تقتضي لا محالة أعمالاً وإذا خولفت خمدت الصفات وماتت‏.‏

مثل البخل فإنه يقتضي إمساك المال فإذا منع مقتضاه وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل وصار البذل طبعاً وسقط التعب فيه فإن علاج البخل بعلم وعمل فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود والعمل يرجع إلى الجود والبذل على سبيل التكلف ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة فلم يتيسر العمل فتبقى العلة مزمنة كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء وإمكان استعماله فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت‏.‏

وكان من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم‏.‏

وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها نقله إلى زاوية غيرها ونقل زاوية غيره إليه وأخرجه عن جميع ما ملكه وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه أو سجادة يفرح بها يأمره بتسليمها إلى غيره ويلبسه ثوباً خلقاً لا يميل إليه قلبه‏.‏

فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا‏.‏

فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها فإن كان له أفل متاع كل له ألف محبوب ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة لأنه كان يحب الكل وقد سلب عنه بل هو في حياته على خطر بالفقد والهلاك‏.‏

حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً فقال لبعض الحكماء عنده‏.‏

كيف ترى هذا قال‏:‏ أراه مصيبة أو فقراً قال‏:‏ كيف قال‏:‏ إن كسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر ثم اتفق يوماً أن كسر أو سرق وعظمت مصيبة الملك عليه فقال‏:‏ صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا‏!‏ وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله تسوقهم إلى النار وعدوة أولياء الله إذ تغمهم بالصبر عنها وعدوة الله إذ تقطع طريقه على عباده وعدوة نفسها فإنها تأكل نفسها فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس‏.‏

والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال وهو بذل الدراهم والدنانير فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته ومن قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه لحاجته فليس ببخل ولا يحتاج إليه فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله بل هو كالماء على شط الدجلة إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة‏.‏

بيان مجموع الوظائف التي على العبد في ماله

اعلم أن المال كما وصفناه خير من وجه وشر من وجه‏.‏

ومثاله مثال حية يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف‏.‏

الأولى‏:‏ أن يعرف مقصود المال وأنه لماذا خلق وأنه لم يحتج إليه حتى يكتسب ولا يحفظ إلا قدر الحاجة ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه‏.‏

الثانية‏:‏ أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض وما الغالب عليه الحرام كمال السلطان ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة وما يجري مجراه‏.‏

الثالثة‏:‏ في المقدار الذي يكتسبه فلا يستكثر منه ولا يستقل بل القدر الواجب ومعياره الحاجة والحاجة ملبس ومسكن ومطعم‏.‏

ولكل واحد ثلاث درجات‏:‏ أدنى وأوسط وأعلى‏.‏

وما دام مائلاً إلى جانب القلة ومتقرباً من حد الضرورة كان محقاً ويجيء من جملة المحقين وإن جاوز ذلك وقع في هاوية لا آخر لعمقها‏.‏

وقد ذكرنا تفصيل هذه الدرجات في كتاب الزهد‏.‏

الرابعة‏:‏ أن يراعي جهة المخرج ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر كما ذكرناه فيضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه فإن الإثم في الأخذ من غير حقه والوضع في غير حقه سواء‏.‏

الخامسة‏:‏ أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له إذا فعل ذلك لم يضره وجود المال ولذلك قال علي رضي الله عنه‏:‏ لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد ولو أنه ترك الجميع ولم يرد به وجه الله تعالى فليس بزاهد‏.‏

فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة فإن أبعد الحركات عن العبادة الأكل وقضاء الحاجة وهما معينان على العبادة فإذا كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك‏.‏

وكذلك ينبغي أن تكون نيتك في كل ما يحفظ من قميص وإزار وفراش وآنية لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين وما فضل من الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله ولا يمنعه منه عند حاجته فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها واتقى سمها فلا تضره كثرة المال ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه وعظم فيه علمه‏.‏

والعامي إذا تشبه بالعالم في الاستكثار من المال وزعم أنه يشبه أغنياء الصحابة شابه الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ الحية ويتصرف فيها فيخرج ترياقها فيقتدي به ويظن أنه أخذها مستحسناً صورتها وشكلها ومستليناً جلدها فيأخذها اقتداء به فتقتله في الحال إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل وقتيل المال قد لا يعرف‏.‏

وقد شبهت الدنيا بالحية فقيل‏:‏ هي دنيا كحية تنفث السم وإن كانت المجسة لانت وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال‏.‏